أن القارئ في الكتب التفسيرية، وكذا الكتب المعدة للتفسير، بل والباحثة عنها، لا يجد فيها فصلاً، يعرف القارئ (القواعد الأساسية للتفسير).
نعم قد يتمكن القارئ للمصادر التفسيرية، أن يستخلص مجموعة قواعد أساسية في التفسير اعتمدها المفسرون، وذكروها في مجالات متفرقة.
وحيث كانت هذه القواعد بمثابة خطوط عريضة تعين القارئ على معرفة حركة المفسر، وخطواته في استنباط المعنى النهائي للآية، استدعى ذلك تدوين جملة من هذه القواعد تحت عنوان القواعد الأساسية للتفسير.
ولا يخفى أننا لا نريد بهذا العنوان الحديث عن (القواعد اللغوية)، و(القواعد البلاغية)، و(قواعد الاستدلال المنطقي)، فإن ضرورة اعتماد هذه القواعد في تفسير القرآن الكريم، أمر واضح طالما أن القرآن كتاب عربي، وحديث علمي.
وإنما نريد بـ(القواعد الأساسية للتفسير) ذكر بعض القواعد التي تخص القرآن الكريم باعتباره كتاباً تشريعياً، تربوياً، اعتقادياً، نزل في مقطع زمني خاص، بكل ما فيه من أحداث وأشخاص، وملابسات، وباعتباره كتاباً إلهياً، نزل بطريقة متفرقة ومتقطعة، فيها ناسخ ومنسوخ، ومحكم ومتشابه، وله ظاهر وباطن، الأمر الذي دعا المفسرين إلى وضع قواعد ذات علاقة بهذه الخصوصيات، حيث تساهم معرفة تلك القواعد في عملية استنباط الحكم الشرعي، أو استخلاص الفكرة الإعتقادية، أو التوجيه التربوي من آياته، ويتغلب المفسر من خلال اعتماد تلك القواعد على بعض المشكلات الناجمة من المنهج الذي اختص به القرآن الكريم.
وهذه القواعد هي:
1-قاعدة(اعتماد الظهور القرآني):
وهي القاعدة التي يصطلح عليها الفقهاء والمفسرون بقاعدة( حجية الظهور القرآني) ويقصدون بذلك أن الظهور اللغوي للكلمات والجمل القرآنية، يمكن اعتماده في معرفة المقصود القرآني، حتى وإن لم يـبلغ ذلك الظهور مستوى النص والدلالة القطعية. توضيح ذلك:
إن دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له، يمكن تصورها بأحد مستويات:
المستوى الأول: مستوى النص، وهو أن تكون الدلالة بدرجة من الوضوح والقوة، بحيث لا يحتمل اللفظ أي معنى آخر، كما في قوله تعالى:- (أحل الله البيع) فإن الكلمة نص في حلية البيع، حيث لا تحتمل أي معنى آخر.
المستوى الثاني: مستوى الظهور، وهو أن تكون الدلالة بدرجة كافية من الوضوح لدى المستمع، لكنها لا تمنع أن يكون مقصود المتكلم هو معنى آخر، وإن لم يكن ظاهراً وواضحاً، كما في قوله تعالى:- ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) فإنها ظاهرة في وجوب الإنصات والاستماع، لأن صيغة فعل الأمر في اللغة العربية ظاهرة في الوجوب، ولكن هذا الظهور ليس بالمستوى الذي يمنع أن يكون مراد المتكلم هو طلب الفعل والندب إليه على مستوى الاستحباب، وليس على مستوى الوجوب.
المستوى الثالث: مستوى الإجمال، بمعنى أن اللفظ يفقد وضوح الدلالة على المعنى المطلوب لسبب وآخر، كما إذا كانت الكلمة بالأصل موضوعة لأكثر من معنى، ولم تقم قرينة في الجملة على إرادة أحد المعنيـين، أو لوجود مجموعة قرائن متعارضة كل واحدة تجذب إلى معنى معين.
كما في قوله تعالى:- ( والرجز فاهجر) حيث أن كلمة الرجز في اللغة تحتمل أحد معاني:
1-الأصنام.
2-الأخلاق الرذيلة.
3-العذاب.
ومثال آخر، قوله تعالى:- (ولا تمنن تستكثر)، حيث أن كلمة( تستكثر) تحتمل معنيـين:
الأول: رؤية العمل كثيراً.
الثاني: طلب الشيء الكثير من الطرف المقابل.
ونتيجة ذلك، أن الكلمة سوف تكون مجملة في دلالتها على أحد هذه المعاني ما لم تساعد أحد القرائن على تعيـين أحد تلك المعاني.
المستوى الرابع: مستوى خلاف الظاهر، وقد يصطلح عليه بـ(المؤول) وهو أن تكون دلالة اللفظ على المعنى بدرجة من الضعف، حيث لا يكاد يكون له ظهور في ذلك المعنى، بل الظهور على خلافه، وهو بهذا المعنى يكون عكس المستوى الثاني الذي تقدم شرحه، فحينما تكون صيغة فعل الأمر ظاهرة في الوجوب، فإن دلالتها على الاستحباب، أو مجرد الجواز، تكون بمستوى خلاف الظاهر.
وهكذا في دلالة(وثيابك فطهر) على معنى(ونفسك فطهر) لأن كلمة الثياب ظاهرة في الملابس، وأما حملها على معنى نفس الإنسان فهو حمل على خلاف الظاهر، ودلالة الكلمة على هذا المعنى هي دلالة ضعيفة، بل ربما أمكن القول أنه لا توجد دلالة للفظ فيما هو خلاف الظاهر.
ثم إنه بعد اتضاح هذه المستويات الأربعة في الدلالة، نقول:
لا شك في عدم إمكانية اعتماد المستوى الرابع من الدلالة، كما لا شك في عدم إمكانية اعتماد المستوى الثالث أيضاً، وهذا هو ما يصطلح عليه بـ(عدم الحجية).
كما لا ريب ولا شك في أن المستوى الأول من الدلالة وهو( النص) لابد من اعتماده، والاستناد إليه في فهم المعاني القرآنية المقصودة.
وإنما يقع البحث والكلام في إمكانية الاعتماد على المستوى الثاني من الدلالة، وهو (الظهور)، من حيث أن هذا المستوى من الدلالة ليس بدرجة يمنع من إرادة المعنى الآخر، وحيث كان القرآن الكريم له منهج خاص في البيان والكلام، وفيه محكم ومتشابه، وفيه ظاهر وباطن، فلعل المقصود القرآني هو المعنى الآخر، الذي لا يظهر من الكلام.
ومن هنا فقد وجد اتجاهان في هذه المسألة:
الأول: وهو الذي يؤمن بحجية(الظهور القرآني) بمعنى إمكانية اعتماد هذا المستوى من دلالة الآيات القرآنية.
الثاني: وهو الذي يؤمن بعدم حجية (الظهور القرآني) وعدم إمكانية الاعتماد إلا على المستوى الأول من الدلالة.
ويكاد يكون الاتجاه الذي يتفق عليه المسلمون، هو الاتجاه الأول، رغم وجود من يميل إلى الاتجاه الثاني.
المراد من قاعدة(الظهور القرآني):
هذا ولا يخفى أن الذي نود التأكيد عليه، هو أننا في عملية التفسير نسعى لاكتشاف ما هو الظهور القرآني في كل آية، ونقوم بعملية دراسة الكلمة بحسب وضعها اللغوي، وتجميع القرائن التي تساعد في تكوين الظهور، ثم نعتمد على المعنى الذي تعطيه الآية، وإن لم يكن بمستوى الصراحة والنص.
وفي ضوء هذا الرأي سوف لا نحتاج بالضرورة في تفسير كل آية إلى رواية من السنة الشريفة تفسر لنا تلك الآية، كما هو رأي أصحاب الاتجاه الثاني، القائلين بعدم حجية الظهور القرآني، بل إن وجدت الرواية المفسرة اعتمدناها، وإن لم توجد اكتفينا بالظهور في تلك الآية، وكوّنا المعنى المقصود في ضوئه.
كما أنه في ضوء الإيضاح السابق، سوف لا يجوز لنا القبول بأي معنى آخر لا تظهر فيه الآية، حيث لا نملك أي مبرر عرفي، ولا شرعي لحمل الآيات القرآنية على معاني خفية، هي على خلاف الظهور، في الوقت الذي نعرف أن القرآن الكريم، اتبع نفس منهج التخاطب بين الناس الذي يعتمد في نقل المعاني للآخرين على أساس ظهور الكلمات والجمل، وليس فقط على أساس ما هو نص، وصريح.
2-قاعدةإتباع عموم اللفظ
وهي القاعدة التي يعبر عنها المفسرون حسب اصطلاحهم بقاعدة(المورد لا يخصص الوارد)، و(العبرة بعموم اللفظ لا بخصوصية المورد).
وهي تعني أن النص القرآني لا يتقيد بحدود الزمان والمكان، ولا بأسباب النـزول، انطلاقاً من الاتفاق على عمومية القرآن الكريم للبشرية جمعاء، وضرورة تجاوز خصوصية الظرف الذي نزل فيه زماناً، أو مكاناً، أو شخصاً، أو حَدَثاً معيناً، إنما اللازم هو ملاحظة دلالة النص ومدى شموله، واستيعابه بما هو أوسع من ظرف نزوله الخاص.
هذا والظاهر أن هذه القاعدة من القواعد المسلمة التي لا تحتاج إلى إقامة برهان أو دليل عليها،
ثم إنه لكي يتضح المعنى المراد من القاعدة، لا بأس بالإشارة إلى بعض الأمثلة القرآنية:
منها: قوله تعالى:- ( ويل لكل همزة لمزة)فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في العاص بن وائل والوليد بن المغيرة، كما يذكرون أشخاصاً آخرين في قصة نزولها.
إلا أن نزول الآية الشريفة في أولئك الأشخاص لا يستدعي تضيـيق مفهومها، ولا يعدم دلالتها العامة على حرمة الهمز واللمز، ونهي الإسلام عنه في كل زمان ومكان، وهذا هو معنى أن: العبرة بعموم باللفظ، والمورد لا يخصص الوارد.
فطالما كان النص عاماً:- (ويل لكل همزة لمزة) فيجب أن يكون الحكم المستفاد منه عاماً أيضاً، بالرغم من خصوصيات مورد النـزول وأسبابه.
ومنها: قوله تعالى:- ( ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر) فقد ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود، وقيل أنها نزلت في جماعة من الأنصار، وقيل نزلت في جماعة من أهل مكة، وغير ذلك.
إلا أن كل هذه الفروض لا تغير من عمومية دلالة هذه الآيات على انتقاد القرآن الكريم لظاهرة التكاثر الدنيوي بعيداً عن هموم الدين، وعالم الآخرة، فهي ظاهرة مرفوضة في القرآن الكريم من أي قوم صدرت، وفي أي زمان، وفي أي مكان.
تنبـيه:
هذا ومما ينبغي الإلتفات إليه وعدم الغفلة عنه، ونحن نـتحدث عن قاعدة إلغاء خصوصية الزمان والمكان، ومورد النـزول، أن هذا الإلغاء لخصوصية ما ذكرنا، لا يعني أن الآيات القرآنية كلها مطلقة وعامة، نطبقها حيث نشاء بعيداً عن الموضوع الذي حددته، والحدود التي وضعتها.
إنما المقصود هو الدعوة لمراقبة النص القرآني، فإن كان عاماً أخذنا بعمومه بقطع النظر عن مورد النـزول وسببه، وإن كان مطلقاً أخذنا بإطلاقه دون تقيـيد بمورد النـزول وسببه، أما إذا كان النص في ذاته خاصاً بعنوان معين، ومقيدٍ بقيدٍ خاص، فإنه لا يجوز أن نـتجاوز تلك الخصوصية، ولنشر لبعض الأمثلة:
ومنها: قوله تعالى:- (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً)، فإننا لا نستطيع أن نلغي شرطية الاستطاعة الذي نصت عليه الآية الشريفة.
والحاصل، إن الذي أردنا قوله، هو أنه لابد من مراقبة النص ذاته، وملاحظة مدى عموميته، أو خصوصيته، وذلك هو معنى قول المفسرين: (العبرة بعموم اللفظ).
والنـتيجة أننا حين نريد أن نفسر آية ونستخرج منها حكماً، أو فكرة، فإن اللازم هو متابعة اللفظ في سعته، أو ضيقه واختصاصه، بعيداً عن الخصوصيات الوقتية المحيطة به.
والحقيقة أن هذه القاعدة تستمد قانونيتها وشرعيتها من القاعدة الأولى، التي سبق وتحدثنا عنها، وهي قاعدة (اعتماد الظهور القرآني) وذلك لأن عموم اللفظ سوف يشكل ظهوراً للكلام في المعنى العام بعيداً عن الخصوصيات التي أحاطت بظرف النص